الخطأ الطبي في اطار المسئولية القانونية
الخطأ الطبي في إطار المسئولية القانونية
يشهد الطب خلال العقود الأخيرة تطورا كبيرا وتقدما ملحوظا، ولعل الملاحظ لهذا الشأن يرى أن ما تحقق خلال الخمسين عام الماضية يتجاوز في أهميته ما تم تحقيقه خلال عشرين قرن من عمر الطب عموما، غير أن هذه الفعالية المتزايدة للطب الحديث لم تكن لتخفي آثاره الضارة ومخاطره الملازمة لتطوره والتي هي سمة كل تطور علمي في مجالات الحياة تقريبا، فالخطورة وجدت مجالا خصبا في العلوم الطبية، كيف لا والجسد البشري هو موضوع تلك العلوم والابحاث.
ونظرا لأن الممارسات الطبية الحديثة تتم في الغالب من خلال طرق علاجية عن طريق عقاقير لا تخلو من آثار غير متوقعة أو مأمونة العواقب تظهر بعد مرور وقت ليس بالقصير من استخدامها، ضف إلى ذلك ظهور الآلات والأدوات المصاحبة للعمل العلاجي بقدر ما ارتقت في نسبة نجاح العلاج، إلا أن محصلة هذا التطور الطبي وما لازمه من مخاطر أدى إلى زيادة الخطر على جسم المريض، رافقتها في ذات الوقت زيادة ملحوظة في عدد دعاوى المسؤولية المرفوعة أمام القضاء ضد الأطباء للمطالبة بالتعويض عما يخلفه العمل العلاجي والجراحي خصوصا من أضرار.
وإذا كان المشرع قد أجاز للأطباء التعرض لجسم الإنسان، وذلك بإتيان أفعال تعد من قبيل الجرائم إذ أتاها غيرهم من الأشخاص، فإن الغاية من هذه الإجازة هو العمل على علاجهم وتحقيق شفائهم وتخفيف آلامهم أو الحد منها، مما ينفي الصفة الإجرامية عن الأعمال الطبية غير أن هذا العمل مقيد بشروط وأخلاقيات، فإن تجاوزها يعرض صاحبها المساءلة القانونية.
لهذا لم يعد الجدل في الوقت الراهن قائمة حول مدى جواز خضوع الأطباء للمسألة أمام القضاء من عدمه، فالمسألة محسومة منذ أمد بعيد، وأضحى المستقر عليه ضرورة خضوع الأطباء للمساءلة أمام القضاء كغيرهم من المهنيين، فلا يتمتعون بحصانة خاصة، وقد أدى رسوخ مبدأ المسؤولية القانونية للأطباء إلى زوال التقديس الذي كان يتمتع به الأطباء في ممارستهم لعملهم وهذا بالإضافة إلى زيادة الوعي العام لدى الجمهور بحقوقهم اتجاه الأطباء وانتشار الأنظمة الديمقراطية التي تأخذ بيد الضعيف وانتشار نظام التأمين من المسؤولية، كل ذلك أدى إلى زيادة التوجه نحو المحاكم لرفع دعوى المسؤولية الطبية، فالمريض إذا ما أصيب على الطبيب، إذ لم يعد هؤلاء يلقون بما يصبهم نتيجة للعمل الطبي على القدر وحده، وإنما يرجعونه في الكثير من الحالات إلى تقصير الطبيب.
إن أهمية المقال المتعلق بالخطأ الطبي في إطار المسؤولية المدنية نابع بالدرجة الأولى من البعد الأخلاقي، والقانوني، والاجتماعي لمصطلح "المسؤولية الطبية" لأن الطبيب يتعامل مع أثمن الأشياء في حياة الإنسان، ألا وهو الجسد، وفي غالب الأحيان لا يكون للطبيب فرصة لتصحيح الخطأ الذي وقع فيه، فجسم الانسان وعافيته من أكبر نعم الله على عباده وهو أمانة قبل كل شيء، وحرم الله سبحانه وتعالى المساس بالنفس البشرية إلا في نطاق معين محدود وتحت غطاء الضرورة، وتكمن أهمية المقال كذلك في مدى حساسيته والذي عرف نقاشا فقهيا وقضائيا على مر العصور حيث أحدث جدلا واسعا حول الأسس القانونية التي على أساسها يمكن اثارة المسؤولية القانونية للطبيب عن أخطائه، والأمر يعزي في ذلك إلى القصور التشريعي في ضبط النصوص التي تبين مفهوم الخطأ الطبي بشكل واضح وصريح، دونما الرجوع والاعتماد على القواعد العامة قياسا على مفهوم الخطأ بشكل عام.
هذا إلى جانب مزاحمة بعض المبادئ المتعارف عليها طبيا للاجتهاد القضائي في مراقبته للعمل الطبي من أجل مساءلة الأطباء عن أخطائهم مثل: "مبدأ حرية الطبيب في العلاج"، ومبدأ "الاستعانة بالغير"، ومبدأ التنازع بين الالتزام بتحقيق نتيجة والالتزام ببذل غاية" وهذه تعد مشكلة تتطلب وضع حل لمقاربة الموضوع نظريا وتطبيقيا لفك المعادلة بين مصلحتين "حق الطبيب في الاجتهاد الطبي، وحق المريض في العلاج" أما عمليا فإن الحاجة العلمية لمواكبة التحولات التقنية الطبية بالخصوص تستلزم تحفيز جميع المستويات التشريعية والقضائية والفقهية، ومواكبة التقدم الطبي عبر سن عدة تشريعات قانونية طبية تحدد المسؤوليات والالتزامات بدقة لجميع الفاعلين بالقطاع الصحي، وتجرم بعض الأعمال الطبية التي تتطلب المساءلة الجنائية حماية لضحايا الأخطاء الطبية من العبث واللامسوؤلية المهنية للأطباء.
ولعل الدافع الذي أدى بنا للكتابة في هذا الموضوع هو التزايد الملحوظ للقضايا المتعلقة بالأخطاء الطبية في غرف المحاكم وما تثيره هذه القضايا من تساؤلات وصعوبات في نسبة الخطأ للطبيب من عدمه، والحاجة العلمية إلى مواكبة التحولات المهمة التي يعرفها الموضوع إن على صعيد القانون الوطني أو على صعيد القانون المقارن، وعلى جميع المستويات التشريعية والقضائية والفقهية، ثم إن كثرة المؤلفات والكتابات المتخصصة في الموضوع التي عالجت موضوع الخطأ الطبي من عدة زوايا، هو ما دفعنا إلى البحث عن وسيلة أكثر ملائمة مع الضرورات الاجتماعية بهدف العدالة والإنصاف، وكذلك البحث عن المغزى من سكوت المشرع عن النص صراحة بنصوص خاصة في إطار المسؤولية الطبية تضمن حقوق المرضى في ظل إجراءات قضائية ميسرة، وتعترف صراحة بمسؤولية الأطباء عن أخطائهم.
إن كانت الحالات المتعلقة بالأخطاء الطبية والأكثر شيوعا تسجل داخل قاعات التوليد، حيث تعد النساء الفئة الأكثر تضررا من مشكل تشوهات الرحم أو فقدانه، إضافة إلى وفيات الرضع والمضاعفات الصحية الخطيرة التي تشكل النسبة الأكبر من الحوادث الطبية وجب أن ننوه أن هذه الأخطاء كانت سبب مباشرة في مشاكل اجتماعية مثل حالات الطلاق
حسبما سجلته أروقة المحاكم، وتأتي مصلحة طب العيون في المرتبة الثانية من حيث عدد الحوادث المسجلة سنويا، إذ يشكل ضحايا هذه المصلحة الفئة الأكثر تضرره، خصوصا وأن غالبيتهم يدخلونها بسبب مشاكل بسيطة ويخرجون منها بإعاقات مستديمة تصل حد العمی بسبب إهمال بعض الأطباء أو خضوعهم لعمليات على يد أطباء متربصين بعيادات خاصة أو عمومية، كما تسجل كذلك حالات عديدة سببها أخطاء كارثية ناجمة عن سوء التكفل الصحي، سواء داخل مصالح الإستعجالات أو بالأخص داخل قاعات العمليات على مستوى المؤسسات العمومية وكذلك العيادات الخاصة، ويتعرض هؤلاء في الغالب إلى مشاكل التسريح من العمل والإحالة على البطالة وهذه من أصعب المواقف التي يتعرض لها ضحايا الأخطاء الطبية، فغالبيتهم تدمر حياتهم بشكل كلي أو جزئي بسبب فقدانهم لوظائفهم بعد العامة المترتبة عن الخطأ الطبي بحجة العجز.
وجاء اختيار كتابة المقال عن الخطأ الطبي في إطار المسؤولية المدنية بالدرجة الأولى إلى مواصلة البحث في مجال المسؤولية الطبية، ضف إلى ذلك تزايد ظاهرة الخطأ الطبي في بلد مازال فيه القطاع الصحي وخاصة العمومي يعاني تحت وطأة غياب التقنيات الحديثة وقلة الأطر المتكونة، وغياب البنيات التحتية وضعف الرقابة في المجال الصحي، بالإضافة إلى أن الكثير من الضحايا يشتكون من التواطؤ الذي يخص التعاطف بين الأطباء في حالات كثيرة، وهم بصدد إثبات الخطأ والقاضي لا يمكن أن يصدر أحكاما دون دلائل ملموسة وحتى إن حاول الاستعانة بالشهود، فهم بالأساس لن يكونوا سوى زملاء للمهنة، لذلك كان إثبات الخطأ الطبي من الصعوبة ما كان للمضرور أو ذويه، وهم في مرحلة المطالبة بالتعويض والذي في بعض الأحيان يكون هزيلا لا يتناسب مع جسامة الخطأ الطبي المرتكب في حق المريض.
إن الزيادة المطردة في المشاكل القانونية التي أصبحت تثيرها الحوادث الطبية، لدرجة أصبحت مادة شبه يومية في وسائل الإعلام والمؤتمرات العلمية محلية وعالمية زيادة على أروقة المحاكم، لا يمكن لها أن تقعد الاطباء عن قيامهم بواجبهم، فالطبيب الكفء لا يفكر كثيرة في مسؤوليته القانونية، خصوصا بعد ما بات التأمين الإلزامي من المسؤولية المدنية يغطي خطأ الطبيب.
ومن جهة أخرى، فإن القضاء يقف حائرة أحيانا في قضايا الخطأ الطبي، إذ أن الأطباء يرفضون اعتبار أخطائهم المهنية سببه لمسألتهم فالخوض في الموضوع يظل محظورا على رجل القانون، وهو حظر تحاول الإيديولوجية الطبية أن تفرضه نظرية وعملية، مع إبعاد الرجل القانون عن ذلك.
فهذه باختصار أهم أسباب اختيار كتابة المقال عن موضوع الخطأ الطبي والمسؤولية الطبية وذلك لمحاولة تسليط الضوء على موضوع ليس بالجديد بل هي مشكلة على الصعيد العالمي يعمل رجال الفقه والقضاء وحتى الأطباء في كافة أرجاء العالم من أجل حل القضايا المتعلقة بسوء الممارسة الطبية.